فصل: تفسير الآيات (68- 70):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (53):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً} [53].
{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أرسلهما متجاورين متلاصقين، بحيث لا يتمازجان: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} أي: شديد العذوبة قامع للظمأ: {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أي: بليغ الملوحة: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً} أي: حاجزاً لا يختلط أحدهما بالآخر: {وَحِجْراً مَحْجُوراً} أي: منعاً من وصول أثر أحدهما إلى الآخر، وامتزاجه به، حتى بعد دخول أحدهما في الآخر مسافة.
لطيفة:
تلطف هنا المهايميّ في تأويل الآية، بمعنى يصلها بالآية قبلها، في أسلوب غريب. قال رحمه الله في قوله تعالى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً}: يؤثر في بواطنهم فيكون: {كَبِيراً} يفوق ما يؤثر في الظواهر وإن زعموا أنه كيف يجاهد بالدلائل من يورد شبهات تجاورها؟ قيل: غاية أمرها أن يكونا كالبحرين المختلفين المتجاورين. وقد رفع الله الالتباس بينهما بعد ما جاور بينهما وهما محسوسان، فكيف لا يرفع الالتباس بين البحرين المعقولين إذ: {هُوَ الَّذِي مَرَجَ} أي: جاور: {الْبَحْرَيْنِ} اللذين بينهما غاية الخلاف إذ: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} أي: قاطع للعطش وهو مثل بحر الدلائل المفيدة للذوق، القاطعة عطش الطلب: {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أي: مبالغ في الملوحة. وهو مثل بحر الشبهات الموجبة للنفرة جدًّا لأهل الذوق وأما لأهل النظر فقد: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً} أي: مانعاً من الخلط. وهو النظر في مواد المقدمات وصورها ليعلم بذلك صحة الدلائل وأما فساد الشبهات فيعلم بالاعتراضات التي لا جواب عنها، كما أنه جعل بينهما: {حِجْراً} أي: منعاً من وصول أثر أحدهما إلى الآخر: {مَحْجُوراً} أي: ممنوعاً أن يمنع. وإن زعموا أن كل فرقة ترى ممسكاته تفيده الذوق وتقطع عنه الطلب ويتنفر عن متمسكات صاحبه أشد من التنفر عن الملح الأجاج، قيل: ليس هذا بالنظر إلى نفس الدلائل، بل بواسطة التعصب من جهة الآباء والمشايخ والأصحاب. وقد أوجد الله لإزالة العذر عنه مثالاً، في قوله:

.تفسير الآية رقم (54):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} [54].
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً} أي: كما أخرج من المقدمات نتائج العلوم: {فَجَعَلَهُ} أي: البشر: {نَسَباً} أي: أصلاً أو فرعاً أو حاشية لقوم: {وَصِهْراً} أي: لآخرين يتعصب من أجل نسبه وصهره، فيعتقد باطلهم حقّاً. كذلك أهل الشغب يتعصبون لآبائهم ومشايخهم: {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} أي: وهو وإن صعب إزالته، فإن ربك الذي أمرك بالجهاد الكبير، قدير على إزالته. كما قدر في النسب والصهر. فلا يبالي المؤمنون لهما. انتهى كلام المهايميّ رحمه الله.
وهو منزع في باب الإشارة غريب، أثرناه عنه للطافته. وأما معنى الآية في عظيم اقتداره سبحانه، حيث خلق البشر وقسمهم من نطفة واحدة قسمين ذوي نسب، أي: ذكوراً ينسب إليهم، فيقال: فلان بين فلان وفلانة بنت فلان. وذوات صهر أي: إناثاً يصاهر بهن، فظاهر. ونظيره قوله تعالى: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [القيامة: 39].

.تفسير الآية رقم (55):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} [55].
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} أي: معيناً للشيطان على عصيان ربه. والمراد بالكافر الجنس، فهو إظهار في مقام الإضمار، لنفي كفرهم عليهم، ولرعاية الفواصل الكريمة.

.تفسير الآيات (56- 57):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} [56- 57].
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي: على تبليغ الرسالة المفهوم من: {أَرْسَلْنَاكَ}: {مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} أي: يتقرب إليه بالإيمان والطاعة. أي: إلى رحمته أو جنابه. فاتخاذ السبيل، مراد به لازم معناه. لأن من سلك طريق شيء، قرب إليه، بل وصل.
قال الزمخشريّ: مثال: {إِلَّا مَنْ شَاءَ} والمراد: إلّا فعل من شاء. واستثنائه عن. الأجر قولُ ذي شفقة عليك، قد سعى لك في تحصيل مالٍ: ما أطلب منك ثواباً على ما سعيت، إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه. فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب. ولكن صورّه هو بصورة الثواب وسماه باسمه، فأفاد فائدتين: إحداهما: قلع شبهة الطمع في الثواب من أصله. كأنه يقول لك: إن كان حفظك لمالك ثواباً، فإني أطلب الثواب.
والثانية: إظهار الشفقة البالغة، وأنك إن حفظت مالك اعتدَّ بحفظك ثواباً ورضي به، كما يرضى المثاب بالثواب.
ولعمري إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مع المبعوث إليهم بهذا الصدد وفوقه. انتهى.
والاستثناء على هذا متصل ادعاء.

.تفسير الآية رقم (58):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} [58].
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} أي: في دفع شرهم ومكرهم: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} أي: عليماً لا يعزب عنه منها شيء، فيجزيهم عليها.

.تفسير الآية رقم (59):

القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [59].
{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي: من أيامه تعالى، أو أيام الخلق، قولان للسلف: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} أي: علا فوقه علوّاً يليق بجلاله المقدس. وتقدم تفسيره: {الرَّحْمَنُ} مرفوع على المدح. أي: هو الرحمن، وهو في الحقيقة وصف آخر للحيّ، كما قرئ بالجرّ. وقيل: الموصول مبتدأ والرحمن خبره. وقيل: الرحمن بدل من المستكن في: {اسْتَوَى} وقوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} فيه أوجه: منها الباء في به صلة اسأل ومنها أنها صلة خبيراً وخبيراً مفعول اسأل أي: فسل عنه رجلاً عارفاً يخبرك برحمته. أو فسل رجلاً خبيراً به وبرحمته. وعليه ففائدة سؤاله هو تصدقه وتأييده.
قال الشهاب: ويصح تنازعهما- أي: اسأل وخبيراً- في الباء. وفيه حينئذ نوع من البديع غريب يسمى المتجاذب. وهو كون لفظ واحد بين جملتين يصح جعله من الأولى والثانية. وقد ذكره السعد في أواخر شرح المفتاح وهذا مما غفل عنه أصحاب البديعيات. انتهى. ومنها أن الباء للتجريد. كقولك رأيت به أسداً. أي: برؤيته. أي: اسأل بسؤاله خبيراً والمعنى: إن سألته وجدته خبيراً.
قال في الكشف: وهو أوجه، ليكون كالتتميم لقوله: {الَّذِي خَلَقَ}، إلخ فإنه لإثبات القدرة، مدمجاً فيه العلم.

.تفسير الآية رقم (60):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} [60].
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} أي: من المسمى به؟ لأنهم ما كانوا يعرفونه تعالى بهذا الاسم ولا يطلقونه عليه. أو الاستفهام للتعجب والاستغراب، تفنناً في الإباء. أي: وما هذه الأسماء والأعلام التي تصدعنا بها، وتقرع آذاننا بالإذعان لها {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ} أي: الأمر بالسجود، المراد به الإذعان بالإيمان: {نُفُوراً} أي: استكباراً عن الإيمان.

.تفسير الآية رقم (61):

القول في تأويل قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً} [61].
{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} أي: نجوماً أو هي البروج الاثنا عشر، التي ترى صورها في الأشكال الحاصلة من اجتماع بعض الكواكب على نسب خاصة، وتنتقل فيها الشمس في ظاهر الرؤية {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً} وهي الشمس: {وَقَمَراً مُنِيراً} أي: مضيئاً بالليل.

.تفسير الآية رقم (62):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [62].
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} أي: ذوي عقبة يعقب كل منهما الآخر: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} أي: يتفكر فيستدل بذلك على عظم قدرته: {أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} أي: يشكر على النعمة فيهما، من السكون بالليل والتصرف بالنهار. ويكون فيهما بما يقتضيه ما خلقا له.

.تفسير الآيات (63- 64):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [63- 64].
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} أي: هينين. أو مشياً هيناً. أي: بسكينة وتواضع. لا يضربون بأقدامهم، ولا يخفقون تبعاً لهم أشراً وبطراً {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} أي: إذا خاطبهم السفهاء بالقول السيء لم يقابلوهم بمثله، بل قالوا كلاماً فيه سلام من الإيذاء والإثم. سواء كان بصيغة السلام كقولهم: سلام عليكم، أو غيرها مما فيه لطف في القول أو عفو أو صفح. وكظم للغيظ. دفعاً بالتي هي أحسن: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} أي: يكون لهم في الليل فضل صلاة وإنابة، كما قال تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17- 18]، وقوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] الآية، وقوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، والبيتوتة لغة: الدخول في الليل. يقال: بات يفعل كذا يبيت ويبات، إذا فعله ليلاً. وقد تستعار البيتوتة للكينونة مطلقاً. إلا أن الحقيقة أولى، لكثرة ما ورد في معناها مما تلونا. ولذلك قال السلف: في الآية مدح قيام الليل والثناء على أهله. وفي قوله: {لِرَبََّهمْ} إشارة إلى الإخلاص في أدائها وابتغاء وجهه الكريم. لما أن ذلك هو الذي يستتبع أثرها من العمل الصالح وفعل الخير وحفظ حدود الله: {وقياماً} جمع قائم أو مصدر أجري مجراه.

.تفسير الآيات (65- 66):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [65- 66].
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} أي: هلاكاً دائماً. والمراد من قولهم ذلك، فزعهم منها، ووجلهم الشديد المستتبع لتمسكهم بالتقوى، واعتصامهم بالسبب الأقوى. لا مجرد قلقلة اللسان، بلا تأثر من الجنان. فإنهم لم يبتهلوا إلى المولى، ويتعوذوا به من سعيرها، إلا لعلمهم بسوء حالها. ومقتضى العلم بالشيء إيفاؤه حقه والعمل بموجبه. ولذا قال تعالى: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} أي: موضع استقرار وإقامة.

.تفسير الآية رقم (67):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [67].
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} أي: لم يجاوزوا الحدّ في الإنفاق، ولم يضيّقوا على أنفسهم وأهليهم وما يعروهم بخلاً ولُؤْماً. بل كانوا في ذلك متوسطين، وخير الأمور أوسطها.
قال الزمخشريّ: وصفهم الله بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير. وبمثله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29]، وروى الإمام أحمد عن أبي الدرداء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من فقه الرجل رفقه في معيشته» وأخرج أيضاً عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عال من اقتصد» وروى البزار عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أحسن القصد في الغنى، وما أحسن القصد في الفقر، وما أحسن القصد في العبادة».
وعن الحسن: ليس في النفقة في سبيل الله سرف. وسمع رجل رجلاً يقول: لا خير في الإسراف. فقال: لا إسراف في الخير.

.تفسير الآيات (68- 70):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [68- 70].
{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} أي: لا يشركون بعبادة ربهم أحداً، فالدعاء بمعنى العبادة: {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} أي: حرمها بمعنى حرّم قتلها. ومنه الوأد وغيره: {إِلَّا بِالْحَقِّ} أي: المزيل لحرمتها وعصمتها: {وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} أي: ما ذكر من هذه القبائح العظام: {يَلْقَ أَثَاماً} أي: يجد في الآخرة جزاء إثمه: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} أي: ذليلاً محتقراً جامعاً لعذابي الجسم والروح: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} أي: لمن تاب وآمن وعمل صالحاً.
قال الحافظ ابن كثير: وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل. ولا تعارض بين هذه وآية النساء: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} [النساء: 93] الآية، فإن هذه، وإن كانت مدنية، إلا أنها مطلقة. فتحمل على من لم يتب. لأن هذه مقيدة بالتوبة. ثم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48 و116] الآية، وقد ثبتت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة توبة القاتل. كما ذكر مقرراً من قصة الذي قتل مائة رجل ثم تاب فقبل الله توبته، وغير ذلك من الأحاديث. ثم قال: وفي معنى قوله تعالى: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} قولان:
أحدهما: أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات. قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس، في هذه الآية: هم المؤمنون. كانوا من قبل إيمانهم على السيئات، فرغب الله بهم عن السيئات. فحولهم إلى الحسنات، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات. وكذا قال سعيد بن جبير: أبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الرحمن، وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين. وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات. وكذا قال الحسن: أبدلهم بالعمل السيء العمل الصالح، وأبدلهم بالشرك إخلاصاً، وبالفجور إحصاناً، وبالكفر إسلاماً.
القول الثاني: إن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح، حسنات. وما ذاك إلا أنه كلما تذكر ما مضى، ندم واسترجع واستغفر. فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار. انتهى.
ولابن القيم رحمه الله تعالى في طريق الهجرتين في هذا المقام بسط حسن وتناظر متقن، لا بأس بإيراده، لعظم فائدته.
قال رحمه الله بعد شرحه لحديث فرح الله بتوبة عبده ما مثاله: وها هنا مسألة، هذا الموضع أخص المواقع ببيانها. وهي أن التائب إذا تاب إلى الله توبة نصوحاً، فهل تمحى تلك السيئات وتذهب، لا له ولا عليه، أو إذا محيت أثبت له مكان كل سيئة حسنة؟ هذا مما اختلف الناس فيه، من المفسرين وغيرهم، قديماً وحديثاً. فقال الزجاج: ليس يجعل مكان السيئة الحسنة لكن يجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة. قال ابن عطية: يجعل أعمالهم، بدل معاصيهم الأولى طاعة. فيكون ذلك سبباً لرحمة الله إياهم، قاله ابن عباس وابن جبير وابن زيد والحسن. ورد على من قال هو في يوم القيامة. قال: وقد ورد حديث في كتاب مسلم من طريق أبي ذر يقتضي أن الله سبحانه يوم القيامة، يجعل لمن يريد المغفرة له من الموحدين، بدل سيئاته حسنات. وذكره الترمذيّ والطبريّ. وهذا تأويل سعيد بن المسيب في هذه الآية.
قال ابن عطية: وهو معنى كرم العفو. انتهى.
وسيأتي ذكر الحديث والكلام عليه.
وقال الثعلبيّ: قال ابن عباس وابن جريج والضحاك وابن زيد: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} يبدلهم الله تقبيح أعمالهم في الشرك، محاسن الأعمال في الإسلام. فيبدلهم بالشرك وبقتل المؤمنين، قتل المشركين. وبالزنى، عفة وإحصاناً.
وقال آخرون: يعني يبدل الله سيئاتهم التي عملوها في حال إسلامهم، حسنات يوم القيامة وأصل القولين، أن هذا التبديل هل هو في الدنيا أو يوم القيامة؟ فمن قال إنه في الدنيا، قال: هو تبديل الأعمال القبيحة والإرادات الفاسدة بأضدادها. وهي حسنات، وهذا تبديل حقيقة. والذين نصروا هذا القول احتجوا بأن السيئة تنقلب حسنة، بل غايتها أن تمحى وتكفر ويذهب أثرها، فأما أن تنقلب حسنة فلا. فإنها لم تكن طاعة، وإنما كانت بغيضة مكروهة للرب، فكيف تنقلب محبوبة مرضية؟
قالوا: وأيضاً فالذي دل عليه القرآن إنما هو تكفير السيئات ومغفرة الذنوب، كقوله: {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} [آل عِمْرَان: 193]، وقوله: {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر: 53]، والقرآن مملوء من ذلك وفي الصحيح من حديث قتادة عن صفوان بن مُحْرِز قال: قال رجل لابن عمر: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ قال: سمعته يقول: «يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه فيقول: هل تعرف؟ فيقول: رب! أعرف قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم. فيعطى صحيفة حسناته».
وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على الله عز وجل.
فهذا الحديث المتفق عليه، والذي تضمن العناية بهذا العبد، إنما فيه ستر ذنوبه عليه في الدنيا ومغفرتها له يوم القيامة. ولم يقل له: وأعطيتك بكل سيئة منها حسنة. فدل على أن غاية السيئات مغفرتها وتجاوز الله عنها.
وقد قال الله في حق الصادقين: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 35]، فهؤلاء خيار الخلق. وقد أخبر عنهم أنه يكفر عنهم سيئات أعمالهم ويجزيهم بأحسن ما يعملون. وأحسن ما عملوا إنما هو الحسنات لا السيئات، فدل على أن الجزاء بالحسنى إنما يكون على الحسنات وحدها. وأما السيئات، أن تلغى ويبطل أثرها. قالوا: وأيضاً، فلوا انقلبت السيئات أنفسها حسنات في حق التائب، لكان أحسن حالاً من الذي لم يرتكب منها شيئاً. وأكثر حسنات منه، لأنه إذا أساء شاركه في حسناته التي فعلها وامتاز عنه بتلك السيئات، ثم انقلبت له حسنات ترجح عليه. وكيف يكون صاحب السيئات أرجح من لا سيئة له؟ قالوا: وأيضاً فكما أن العبد، إذا فعل حسنات ثم أتى بما يحبطها، فإنها لا تنقلب سيئات يعاقب عليها، بل يبطل أثرها ويكون لا له ولا عليه، وتكون عقوبته عدم ترتب ثوابه عليها. فهكذا من فعل سيئات ثم تاب منها، فإنها لا تنقلب حسنات فإن قلتم: وهكذا التائب يكون ثوابه عدم ترتب العقوبة على سيئاته، لم ننازعكم في هذا. وليس هذا معنى الحسنة فإن الحسنة تقتضي ثواباً وجودياً. واحتجت الطائفة الأخرى التي قالت: هو تبديل السيئة بالحسنة حقيقة يوم القيامة، بأن قالت: حقيقة التبديل إثبات الحسنة مكان السيئة. وهذا إنما يكون في السيئة المحققة. وهي التي قد فعلت ووقعت. فإذا بدلت حسنة كان معناه أنها محيت وأثبت مكانها حسنة. قالوا: ولهذا قال تعالى: {سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} فأضاف السيئات إليهم، لكونهم باشروها واكتسبوها. ونكر الحسنات ولم يضفها إليهم، لأنها من غير صنعهم وكسبهم، بل هي مجرد فضل الله وكرمه قالوا: وأيضاً، فالتبديل في الآية إنما هو فعل الله لا فعلهم فإنه أخبر أنه هو يبدل سيئاتهم حسنات، ولو كان المراد ما ذكرتم لأضاف التبديل إليهم. فإنهم هم الذين يبدلون سيئاتهم حسنات والأعمال إنما تضاف إلى فاعلها وكاسبها، كما قال تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 59]، وأما ما كان من غير الفاعل، فإنه يجعله من تبديله هو، كما قال تعالى: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} [سبأ: 16]، فلما أخبر سبحانه أنه هو الذي يبدل سيئاتهم حسنات، دل على أنه شيء فعله هو سبحانه بسيئاتهم، لا أنهم فعلوه من تلقاء أنفسهم. وإن كان سببه منهم وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح.
قالوا: ويدل عليه ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي ذر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم آخر أهل جنة دخولاً الجنة. وآخر أهل النار خروجاً منها. رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها. فتعرض عليه صغار ذنوبه. فيقال: عملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا. وعملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا فيقول: نعم. لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة» قالوا: وهؤلاء هم الأبدال في الحقيقة. فإنهم إنما سموا أبدالاً لأنهم بدلوا أعمالهم السيئة، بالأعمال الحسنة، فبدل الله سيئاتهم التي عملوا حسنات.
قالوا: وأيضاً فالجزاء من جنس العمل. فكما بدلوا هم أعمالهم السيئة بالحسنة، بدلها الله من صحف الحفظة، حسنات جزاء وفاقاً.
قالت الطائفة الأولى: كيف يمكنكم الاحتجاج بحديث أبي ذر، على صحة قولكم، وهو صريح في أن هذا الذي قد بدلت سيئاته حسنات، قد عذب عليها في النار، حتى كان آخر أهلها خروجاً منها فهذا قد عوقب على سيئاته. فزال أثرها بالعقوبة. فبدل مكان كل سيئة منها حسنة. وهذا حكم غير ما نحن فيه. فإن الكلام في التائب من السيئات، لا فيمن مات مصرّاً عليها غير تائب. فأين أحدهما من الآخر؟
قالوا: وأما ما ذكرتم من أن التبديل هو إثبات الحسنة مكان السيئة، فحق. وكذلك نقول: إن الحسنة المفعولة صارت في مكان السيئة، التي لولا الحسنة لحلت محلها.
قالوا: وأما احتجاجكم بإضافة السيئات إليهم، وذلك يقتضي أن تكون هي السيئات الواقعة وتنكير الحسنات وهو يقتضي أن تكون حسنات من فضل الله، فهو حق بلا ريب. ولكن من أين يبقى أن يكون فضل الله بها، مقارناً لكسبهم إياها بفضله؟.
قالوا: وأما قولكم إن التبديل مضاف إلى الله لا إليهم، وذلك يقتضي أنه هو الذي بدلها من الصحف، لأنهم هم الذين بدلوا الأعمال بأضدادها، فهذا لا دليل لكم. فإن الله خالق أفعال العباد. فهو المبدل للسيئات حسنات خلقاً وتكويناً، وهم المبدلون لها فعلاً وكسباً.
قالوا: وأما احتجاجكم بأن الجزاء من جنس العمل، فكما بدلوا سيئات أعمالهم بحسناتهم أبدلها الله كذلك في صحف الأعمال. فهذا حق، وبه نقول، وإنه بدلت السيئات التي كانت مهيأة ومعدة أن تحل في الصحف، بحسنات جعلت موضعها. فهذا منتهى إقدام الطائفتين، ومحط نظر الفريقين. وإليك أيها المنصف الحكم بينهما. فقد أدلى كل منهما بحجته، وأقام بينته. والحق لا يعدوهما ولا يتجاوزهما. فأرشد الله من أعان على هدى، فنال به درجة الداعين إلى الله، القائمين ببيان حججه ودينه. أو عذر طالباً منفرداً في طريق مطلبه، قد انقطع رجاؤه من رفيق في الطريق. فغاية أمنيته أن يخلي بينه وبين سيره، وألا يقطع عليه طريقه. فمن رفع له مثل هذا العلم ولم يشمر إليه، فقد رضي بالدون. وحصل على صفقة المغبون. ومن شمر إليه ورام ألا يعارضه معارض، ولا يتصدى له ممانع، فقد منى نفسه المحال، وإن صبر على لأوائها وشدتها، فهو والله الفوز المبين، والحظ الجزيل وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
فالصواب، إن شاء الله في هذه المسألة، أن يقال: لا ريب أن الذنب نفسه لا ينقلب حسنة. والحسنة إنما هي أمر وجوديّ يقتضي ثواباً ولهذا كان تارك المنهيات إنما يثاب على كف نفسه وحبسها عن موافقة المنهيّ. وذلك الكف والحبس أمر وجوديّ وهو متعلق الثواب. وأما من لم يخطر بباله الذنب أصلاً، ولم يحدث به نفسه، فهذا كيف يثاب على تركه؟ ولو أثيب مثل هذا على ترك هذا الذنب، لكان مثاباً على ترك ذنوب العالم التي لا تخطر بباله وذلك أضعاف حسناته بما لا يحصى فإن الترك مستصحب معه، والمتروك لا ينحصر ولا ينضبط، فهل يثاب على ذلك كله؟ وهذا مما لا يتوهم. وإذا كانت الحسنة لابد أن تكون أمراً وجودياً، فالتائب من الذنوب التي عملها، قد قارن كل ذنب منها، ندماً عليه، وكف نفسه عنه، وعزم على ترك معاودته. وهذه حسنات بلا ريب. وقد محت التوبة أثر الذنب، وخلفه هذا الندم والعزم، وهو حسنة، قد بدلت تلك السيئة حسنة. وهذا معنى قول بعض المفسرين: يجعل مكان السيئة التوبة والحسنة مع التوبة. فإذا كانت كل سيئة من سيئاته قد تاب منها، فتوبته منها حسنة حلت مكانها. فهذا معنى التبديل. لا أن السيئة نفسها تنقلب حسنة.
وقال بعض المفسرين في هذه الآية: يعطيهم بالندم على كل سيئة أساءوها حسنة. وعلى هذا، فقد زال بحمد الله الإشكال. واتضح الصواب. وظهر أن كل واحدة من الطائفتين ما خرجت عن موجب العلم والحجة.
وأما حديث أبي ذر، وإن كان التبديل فيه حق المصرّ الذي عذب على سيئاته، فهو يدل بطريق الأولى على حصول التبديل للتائب المقلع النادم على سيئاته. فإن الذنوب التي عذب عليها المصرّ، لما أزال أثرها بالعقوبة، بقيت كأن لم تكن، فأعطاه الله مكان كل سيئة منها حسنة، لأن ما حصل له يوم القيامة من الندم المفرط عليها، مع العقوبة، لا يقتضي زوال أثره وتبديلها حسنات. فزوال أثرها بالتوبة النصوح، أعظم من زوال أثرها بالعقوبة. فإذا بدلت بعد زوالها بالعقوبة، حسنات، فلأنْ تبدل بعد زوالها بالتوبة حسنات، أولى وأحرى. وتأثير التوبة في هذا المحو والتبديل أقوى من تأثير العقوبة. لأن التوبة فعل اختياريّ أتى به العبد طوعاً ومحبة لله وفرقاً منه، وأما العقوبة، فالتكفير بها من جنس التفكير بالمصائب التي تصيبه بغير اختياره، بل يفعل الله. ولا ريب أن تأثير الأفعال الاختيارية التي يحبها الله ويرضاها في محو الذنوب، أعظم من تأثير المصائب التي تناله بغير اختياره.
انتهى كلامه رحمه الله. وقوله تعالى: